معد فياض
يغوص مؤلف ومخرج فيلم (الحارة)، الاردني باسل غندور عميقا في تفاصيل قاع محلة سكنية فقيرة تقع شرق عمان، دون ان يسمي هذه المحلة او الحارة، ينقب في تشابكاتها والحكايات الحياتية اليومية لسكانها فلا يخرج منها الى السطح سوى سلبياتهم، حتى التفاصيل الايجابية القليلة التي يعرضها تتلاشى امام الكم الكبير من السلبيات وهذا ما أثار الكثير من السجالات على شبكات التواصل الاجتماعي، بل ووصلت هذه النقاشات الى قبة البرلمان الاردني حيث طالب البعض بمنع عرضه.
فيلم الحارة الذي يعرض حاليا على شاشة نيتفليكس Netflix، لعب بطولته كل من: نادرة عمران(أسيل)، عماد عزمي(علي)، ميساء عبد الهادي(هنادي)، بركة رحماني(لانا)، منذر رياحنة (عباس)، نديم ريماوي(توتو)، محمد غسان(الجد)، ومحمد الجيزاري(بهاء).
غندور الذي ذهب الى حي شعبي ليكشف عن تداخلات وتقاطع المصالح بين شخوص هذا الحي وبلغة مغرقة في واقعيتها حيث ينتصر الشر دائما ولا نكاد نجد اي ملمح للخير الذي يضيع مثلما ابرة في تل من القش.
بطل الفيلم ومحرك الاحداث علي الذي يحتال على الجميع بما فيهم عائلته وحبيبته واصدقائه ويوهمهم بانه يعمل مع شركة اميركية بينما هو يعيش على اغراء السياح وقيادتهم للنوادي الليلية ليقبض عمولته من اصحاب هذه النوادي، وسرعان ما سيتحول الى لص، وعباس (شبيح) او شقي يقود عصابة مع هنادي لابتزاز اصحاب الحانات وسكان حارته، واسيل، مصففة الشعر وام لانا ستكون قاتلة وسارقة، حتى لانا التي تبدي موقف معارض لحبيبها علي لسوء تصرفاته سوف تتحول الى سارقة لتفتح محل حلاقة. مسارات كلها تمضي نحو الشر في غياب تام للقانون في ادنى مستوياته.
يبني غندور ثيمة الفيلم على قصة حب بين علي ولانا، ويستهل الاحداث بمشهد شبه حميمي في سرير لانا التي يتسلل اليها ليلا، ليكونا صيدا ثمينا لمتسلل يصورهما من احد السطوح القريبة ليبتز اسيل، ام لانا، والتي بدورها تستنجد بعباس لتلقين علي درسا لن ينساه، لكن هذا الدرس يدفع علي لسرقة عباس وقطع جزء من لسانه تحت تهديد السلاح، إ نجد ان علي يتحرك بحريته يتسلل من هذا السطح الى تلك الشقة وكل الظروف مهيأة له حتى عندما يتسلل الى شقة عباس المحمي بعصابته.

يصر علي على الارتباط بلانا بعد ان تتم خطوبتها لشخص من خارج الحارة، ويحرضها على الهروب معه الى احد فنادق عمان، هناك سوف تكتشف بان الاموال التي معه مسروقة فتتركه في اول ملمح للخير في احداث الفيلم، لتذهب عند جارة امها على امل العودة الى البيت في اليوم التالي، لكن علي يسبقها مع حقيبتها التي تركتها في الفندق وجزء من الاموال التي سرقها من عباس، وعندما تكتشف اسيل وجوده في البناية تقوم بقتله بمقص حلاقة تغرسه في رقبته وتطلب من طليقها توتو اخفاء الجثة، ثم تكتشف الاموال في الحقيبة وتخبأها. لكنها تفاجأ بفيديو يصور جريمتها وطليقها مع رسالة ابتزاز، في اليوم التالي ومع عودة لانا الى بيت امها تكتشف عن طريق الصدفة جريمة امها بقتل حبيبها وسرقة امواله، وهي تقوم بدورها بسرقة الاموال التي كانت مرسلة لها اصلا من علي لتفتح صالون حلاقة في حارة اخرى.
بعد اكتشاف جثة علي الذي كان قد اوهم عائلته بانه مسافر الى اسطنبول لدواعي العمل، يتحول صديقه بهاء الحلاق المسالم الى مدبر خطط لاقناع العائلة بانه بالفعل كان في اسطنبول وتعرض لحادث سير، مع ان الشرطة تخبر العائلة، الجد خاصة، بانهم وجدوا الجثة خارج عمان، وسنعتقد بان بهاء هو قبس الخير في ظلمة هذه الاحداث، كون اعاد المبلغ الذي وجده في حقيبة علي الى عائلته وحاول التخفيف من حزنهم، لكنه سرعان ما سيرتكب جريمة قتل بحق عباس لينقذ الحارة من شره.
فيلم "الحارة" يعرض كل هذه التناقضات في قالب درامي واقعي تشويقي، وتدور أحداثه في حي تحكمه قوانينه الخاصة، فيبدو وكانه دولة داخل دولة، فبين تشابكات الازقة وتداخل العلاقات بين الشخوص يصبح كل شيء مفضوح، وبين المسارات المتناقضة، تعيش شخصيات "الحارة" في صراع متواصل مع الفقر والعوز والاحتياج المر دون ان تخلو الاحداث من كوميديا سوداء تشد المشاهد اليها وقد تخلق تلك الثيمة "إحساسا بالتوتر" تكسره أحيانا مشاهد "رومانسية" تجمع علي بحبيبته لانا في الخفاء.
غندور يبحث عن التفاصيل اليومية ليجعل منها حدثا رئيسيا ويشتغل على تنميته باخلاص، سواء في اسلوبية الاخراج والتصوير، مدير التصوير جاستن هاملتون، وكان من الواضح ان كاتب السيناريو والمخرج ارادنا ان نعيش كل تفصيلة مهما كانت صغيرة في حارته وبيئتها المغرقة بالشعبية من خيبات كبيرة وقناعات يائسة وافراح بسيطة وسعادات متواضعة وحياة يسودها العنف.
غندور اقترب في الكثير من المشاهد من الافلام المصرية، خاصة المبنية على قصص نجيب محفوظ، وكان من الصعب احيانا التمييز بين الحارة المصرية والاردنية، حتى ان شخصية عباس تقترب كثيرا ان لم تكن متطابقة في الاداء والوظيفة بشخصية (فتوات مصر).
يقول المخرج باسل غندور:" بنيت شخصيات الفيلم من الواقع الذي يعاش، من القصص التي تروى ويتم تداولها عبر السوشال ميديا والتي يتحدث عنها الناس والأخبار التي تنشر."، مضيفا:"ما قمنا به هو أخذ تلك الشخصيات ومنحها بعدا دراميا وتجاريا وربما بالغنا قليلا في بعض منها وفي القصص التي تروى ولكنها بالأساس استوحيت من واقع الحارات حيث البلطجة والمراقبة والقوة والفضول والابتزاز، ومن يقول إنها لا تمثلنا، فهو لا يعلم عن الواقع شيئا"، وفي جملته الاخيرة يشير الى الهجوم الذي شن على الفيلم من شخصيات ثقافية واجتماعية وسياسية اردنية قالت بانها صدمت:" بشخصيات وسلوكيات لا تلائم الحارة الأردنية ولا تعكس قيم المجتمع وأخلاقه."، وحملت ردود الفعل المعترضة على الفيلم بين طياتها عبارات مثل: "ما هذا الانحطاط، وهذه الشخصيات غير موجودة بالأردن، وهؤلاء لا يشبهوننا، ومن المعترضين على الفيلم من يرى أنه "تناول بشكل فج موضوع الفقر والعنف"، وركز على "جوانب خيالية وسوداوية بدلا من إبراز البعد الإنساني لسكان المناطق الشعبية."

لكن الكاتب والمخرج يوضح: "إنه تناول موضوع واقعي إلا أن الناس تخاف من الاعتراف بواقعها، وحرصت على ايجاد بيئة معاصرة لحارة بنيت على بحث معمق، وتحويلها لعالم درامي واخترنا قصصا حدثت ولكن ليس بالضرورة أن تكون واقعا يوميا نعيشه لكنه موجود، فهي قصص سمعناها ومتداولة بين الناس بين فيديوهات ابتزاز وبلطجة، هي قصص من الشارع، قد يكون جزءا منها واقعي وفيها نوع من المبالغة والإضافة لتواكب الأحداث الدرامية، وهذا أمر طبيعي."، ويتفق المعجبون بالفيلم على أنه نجح في كشف واقع مخفي يحاول كثيرون إنكاره بحجة أنه "يخالف تقاليد المجتمع المحافظ".
الجدير بالذكر ان في رصيد غندور 3 أفلام كتبها، ذيب" الذي وصل للمراحل النهائية في ترشيحات الأوسكار، وفيلم "فريكة"، و فيلم "الحارة."، وتكشف أفلام غندور عن بيئات مختلفة متنقلا بين الصحراء والتاريخ وحياة الحارة الشعبية وتفاصيلها، وفيلمه الأخير "الحارة" حقق نجاحا كبيرا، وعرض في مهرجانات دولية وعربية ونال جوائز كثيرة.
مخرج فيلم "الحارة"، كان موفقا جدا في اختيار الممثلين، خاصة الفنانة المبدعة نادرة عمران، المعروفة مسرحيا ثم سينمائيا والتي جسدت اكثر من وجه، فهي الام الحريصة الخائفة على ابنتها في وسط ذكوري اجرامي، وهي التي تتمتع بوجه حاد مثلما الالمنيوم في حالة الدفاع عن شرف ابنتها الى الحد الذي تقتل فيه علي الذي حاول تدنيس شرق لانا، وميساء عبد الهادي التي جسدت شخصية هنادي مساعدة زعيم العصابة ومن ثم هي الزعيمة الاولى، وهذا دور جديد على ممثلة في الدراما الاردنية، ثم الممثلة الفلسطينية الاميركية بركة رحماني(لانا)، والتي انتقلت في تحولاتها من عاشقة طيبة وبريئة الى فتاة قوية، ومن مستضعفة امام علي الى شخصية تمتلك قرارها امام والدتها.

تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً