رووداو ديجيتال
في الجلسة رقم (133) لنادي المدى للقراءة-أربيل التي أُقيمت في مكتبة نازدار حيران – أربيل بالشراكة مع معهد غوته الألماني، يوم السبت 16/08/2025، اجتمع أكثر من سبعين قارئاً حول رواية (ساق الذاكرة) للكاتب وعضو النادي "عبدو أحمد".
لم يكن حضور الكاتب بصفته عضواً في نادي المدى شيئاً عابراً، بل دلالة على الدور الذي يلعبه النادي في خلق فضاء للقراءة يتحوّل مع الزمن إلى بيئة حاضنة للكتّاب، وهكذا بدت رواية (ساق الذاكرة) لا كإنجاز فردي وحسب بل كحصيلة مسار جمعي صاغته القراءة والنقاشات داخل النادي.
منذ البداية فتح الحوار مع الكاتب حول تجربته الأولى في الكتابة، تلك التجربة التي وصفها بأنها فعل نجاة قبل أن تكون مغامرة أدبية الكتابة جاءت استجابة لجرح جيل كامل وجد نفسه فجأة مكسور الهوية بين الحرب واللجوء، لم تكن محاولة للتجميل أو الترف بل محاولة لترتيب الذات الممزقة وصرخة أولى تعبّر عن ذاكرة مثقوبة.
انتقل النقاش بعد ذلك إلى البنية الفلسفية للنص فقد تبيّن أن الرواية تبدأ بفيض من الأسئلة التي يطرحها الطفل زانا على نفسه وعلى العالم: "من أنا؟ لماذا يحدث هذا لي؟" أسئلة لا يقدم لها الكاتب أجوبة عن قصد وتَعَمُّد، وتَرْكُ الكاتب مساحة من الحيرة والغموض لم يكن خللاً في البناء السردي، بل مقصداً جماليّاً يفتح النص على احتمالات متعددة ويحفّز القارئ على التأمل بدل الاكتفاء بإجابات جاهزة.

في موضع آخر تناول الحوار مفهوم الذات وتكوينها: هل نحن نتاج الداخل أم انعكاس الظروف الخارجية؟ أجاب عبدو أن الذات ليست معزولة ولا مكتملة بذاتها، بل هي نتاج التفاعل بين الداخل والخارج بين الجرح الشخصي والواقع المفروض، زانا، الشخصية الرئيسة في الرواية ومحور السّرد ومنطلق الأحداث ومنتهاها، بهذا المعنى هو كائن هشّ يتشكل من فقده بقدر ما يتشكل من محاولاته للتأقلم مع حالات متكررة من البتر والخذلان يواجهها.
كان الفقد الجسدي (بتر الساق) هو العلامة الأكثر حضوراً، فقد ناقش الحوار أبعاده الرمزية؛ فالطفل حين ينظر إلى ساقه المبتورة لا يرى مجرد نقص جسدي بل يرى صورة وطن مبتور وذاكرة تطغى عليها صور المسخ والتشويه والكثير من علامات القبح بدلَ الجَمال، لكنّ الكاتب أراد أن يوظف ذلك القبح في عالم السرد الجميل بتفاصيله وجزئياته وإشاراته، ليكون عالَماً موازياً ذلك الواقع أو تعويضاً جَمالياً عمّا افتقده ذلك الواقع والمقيمون فيه.
المرايا في الرواية لم تعكس الوجوه فحسب، بل عكست كل ما فُقد من جمال وتوازن وأرض يقف عليها الإنسان بساقين تُكمل إحداهما الأُخرى، وهنا تطرح الرواية سؤال الهُوِيَّة عَبْرَ الجسد لتكشف كيف يمكن أن تتحوّل الإعاقة الفردية إلى التعبير عن جرح جماعي، وإعاقة لا بدّ من التلويح أو التصريح بها بصورةٍ أو بأُخرى، تقريرياً أو سَردياً.

لم تقتصر المناقشة على حدود الجسد المبتور، بل امتدّت لتلامس البنية المؤسسية التي تُعيد تعريف الإنسان نفسه، ففي مشاهد تسجيل العائلة لدى المفوضية السامية للاجئين يتحوّل الفرد من حياةٍ كاملة إلى رقم، ومن ذاكرةٍ شخصية إلى صورة مطبوعة على ورق، هنا أشار الكاتب إلى أنّ المؤسسات، رغم نواياها الإنسانية، كثيراً ما تختزل الإنسان في ملفاتٍ جامدة، وتُغفل القصص التي تشكّل جوهر وجودهم وتقف وراء أولئك البشر/ الأرقام.
لاحظ القراء أن النهاية بدت معلّقة بلا خلاص بعد عامين في مدينة جديدة، لم يتحقق الوعد بزرع ساق حقيقية ولم يجد الأبطال وجهاً جديداً للحياة. بل على العكس تسللت فكرة العودة وكأن الرحلة دائرة مغلقة، أجاب الكاتب أن هذا الخيار لم يكن عجزاً فنياً بل مقصوداً: النهاية ليست خاتمة لــ(زانا) وحدَه، بل تمثيل لجيل كامل يعيش بنصف جسد، نصف وطن، ونصف ذاكرة، وينهض على ساقٍ واحدة تصحبها انكسارات وانكسارات.
الجلسة لم تكن قراءة عابرة لرواية جديدة، بل مساءلة عميقة عن معنى الفقد، علاقة الجسد بالذاكرة وحدود الهوية في مواجهة الحرب واللجوء، كانت الرواية مرآةً لزمن ممزق، والحوارات التي دارت حولها أعادت طرح سؤال أساسي: هل يمكننا أن نكتب لأنفسنا نهاية مختلفة، أم أن مصائرنا تظل محكومة بذاكرة مبتورة، ويبقى السؤال/ التساؤل معلَّقاً في انتظار إجابات فعلية قد لا تأتي في الوقت المناسب، حين تكون ثمة حاجة إلى تلك الإجابات.
رأي ثقافي بقلم - سيماف خالد محمد
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً