معد فياض
يستهل الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، قصيدته الخالدة"إنشودة المطر" بالغزل بالنخيل وبالنهر ، قائلا:
"عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ.
عيناكِ حين تَبسمانِ تورقُ الكروم.
وترقص الأضواء.. كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهناً ساعة السَّحَرْ
كأنما تنبض في غوريهما، النّجومْ".
وتتكرر في غالبية قصائده ذكر صور بساتين نخل البصرة و"نهر بويب" الذي عاش وترعرع بقربه في قريته"باب سليمان" بقضاء"ابو الخصيب" المزدحم بغابات النخيل في البصرة. ترى ماذا سيقول السياب لو عاد اليوم الى قريته وشاهد جذوع النخيل الميتة مثل شواهد قبور، ونهر بويب وقد جفت مياهه، هل كان سيقول رائعته"انشودة المطر"، او يتغنى بنهر بويب، ام سينعي هذا الفردوس الذي تحول الى ارض جرداء حزينة؟.
النخلة التي قال عنها الخليفة العباسي هارون الرشيد:"كل ذهب وفضة الارض لا يبلغ ثمن نخلة في البصرة" تموت امام اعين الجميع وبعلمهم، بل وبتدبير من جهات عديدة دون ان تبادر الحكومة او مراكز البحوث لانقاذها.
بساتين النخيل وانهارها كانت مصدر الهام شعراء وكتاب وفنانو البصرة، ترى كيف واجهوا ويواجهون انحسار هذه البساتين وتحولها الى ارض قاحلة بلا اشجار او مياه؟. سؤال وجهته رووداو، اليوم الاثنين، 15 ايار 2023، الى ثلاثة مبدعين من البصرة، كاتب القصة محمد خضير، والشاعر طالب عبد العزيز، والفنان التشكيلي أحمد السعد، فاثار في ارواحهم " ضبابٍ من أسىً شفيفْ"، على حد وصف السياب.
محمد خضير: طريق الحكايات
كاتب القصة المبدع محمد خضير، ابن البصرة الذي ترعرع في بساتين نخيلها، ومؤلف كتاب"بصرياثا" قال:"هذه نتيجة كارثة بيئية في العراق كله وليست في البصرة فقط، لا يمكن عزل هذه المسالة عن تلك وكلها تندرج في الواقع البيئي المتدهور في جميع انحاء العراق، والمسالة متصلة ايضا بزيادة السكان والهجرة الداخلية من ارياف العمارة والناصرية حيث راح المهاجرون يبحثون عن اراضي سكنية، فالوضع السكاني له علاقة بالكارثة وعوامل متظافرة اخرى ادت الى هذه النتائج الكارثية."، منبها الى انه:" في مقدمة هذه العوامل هي الحرب العراقية الايرانية ( 1980- 1988)، حيث كان الساتر الترابي لجبهة القتال قد زحف 10 كيلومترات ووصل الى شارع (ابو الخصيب)، وايضا هيأوا مدى رؤية للمدفعية واخذوا عشرة كيلومترات اخرى.. واليوم تساهم، بهذه الكارثة، زيادة السكان واستغلال الاراضي الزراعية لاغراض سكنية وسوء الوعي البيئي وشحة المياه إذ اصبح شط العرب شحيحا مثل دجلة".
يصمت القاص محمد خضير ليرصد تاثير هذه الكارثة عليه كمبدع، ويقول:"التأثر بهذه الظاهرة يتفاوت بين فرد وآخر ، هناك من لا يهتم بذلك، اما الطبقة المثقفة او المبدعين فلهم راي آخر، انا مثلا افكر: كيف كتب السياب قصيدته (انشودة المطر)؟."، ويصف هذه الكارثة:" على انها قدر مخيف يزحف على الوعي والثقافة وتاثيرها متفاوت بين فرد وفرد ..تاثيرها علي انا شخصيا مباشر ويتغلغل بالعمق لاننا كلنا تربينا وترعرعنا بين غابات النخيل والبساتين والانهار ومارسنا هوايات صيد الاسماك والسباحة وتسلق اشجار النخيل، لكن المثقف هو جزء من بيئته ، وينظر لهذه المشكلة نظرة مركبة واسبابها".

ويوضح أن "اختفاء بساتين النخيل تؤثر في نفسي تاثيرا مباشرا، لكنها لا تؤثر على نتاجي الابداعي، الابداع يعتمد على فكرة، وفكرتنا عن البصرة ثابتة تقريبا منذ الاربعينيات والخمسينات عندما كان شط العرب يزدحم بالابلام والسفن، وعندما كانت البصرة مشتى العراقيين والخليجيين ، وعندما كانت في البصرة صالات عرض سينمائي ومسارح وكان ابناء الخليج، يمضون عطلتهم الاسبوعية هنا، خاصة الكويتيين لانهم يرتبطون بالبصرة بأواصرعائلية، وقد شهدنا عودة هذه المشاهد خلال اقامة بطولة خليجي 25 لكرة القدم حيث ازدحمت البصرة بالخليجيين، وايضا بسبب وجود اجود انواع التمور في العالم هنا، لكننا صرنا اليوم نستورد التمور من خارج العراق، فخلال الحرب العراقية الايرانية وبعدها تم تهريب كميات كبيرة من النخيل الى دولة الامارات وبقية دول الخليج العربي، وصارت تجارة مفتوحة لافضل انواع النخيل"، ويستطرد قائلا:"الحمد لله في حديقة بيتي نخلة برحية(التي تنتج افضل انواع التمور في العالم)، وهذه مرة تجود علينا بوفرة من التمور ومرة تشح بانتاجها بسبب النسبة العالية من الملوحة بالمياه".
ويتحدث الكاتب محمد خضير عن غابات النخيل كمصدر الهام لابداعه، قائلا:"في كتابي (بصرياثا) هناك فصل كامل عن طريق ابو الخصيب(طريق الحكايات) تحدثت فيه عن الدرب المتعرج الذي يربط بين مركز مدينة البصرة، العشار، وقضاء (ابو الخصيب) والذي يجتاز بساتين النخيل، كنت معلما بمنطقة (الكطعة) القريبة من (السيبة) حيث تجتاز بنا السيارة كل يوم تقريبا هذا الطريق الساحر ذهابا وايابا، في وقت لم تكن فيه سوى سيارة او سيارتين في الشارع، وفي الخريف يتحول الى مشهد جميل للغاية، لكنه اليوم صار، هذا الطريق شارعا ذو اتجاهين(سايدين) وعلى جهتيه تزدحم المتاجر والبيوت وانتهى سحره وجماله وغابت الباصات الخشبية التي كانت تنقل الناس..اليوم للاسف صار منطقة سكنية، وكل الاراضي هناك بيعت بصفقات مزورة لان الوكلاء صاروا يتاجرون بها، وكلاء الملاك الاصلين الذين هجروا البصرة لاسباب كثيرة منها امنية وطائفية او بسبب هجمة الريف على المدينة".
يطالب الكاتب محمد خضير:" بتشريع قوانين لتحديد النسل، كل سنة يولد مليون طفل في العراق، هذه تسبب زيادة كبيرة في حجم السكان وهذا سيؤدي الى شح المواد الغذائية والماء، وكذلك الحد من الهجرة الداخلية، حتى قضاء الزبير الذي كان يسكنه البصريون فقط، مثلما (ابو الخصيب) تم غزوه من قبل سكان الارياف في المحافظات المجاورة وبسبب هجرة اهله، تم الاستيلاء من قبل جهات متنفذة على اراضي العوائل البصرية هناك".
ويشخص اسباب اخرى لانحسار بساتين النخيل، قائلا:"لقد ادى التطور الحضاري الى ان يهمل الجيل الثاني والثالث من سكان البصرة البساتين التي ورثوها عن اهلهم، جيل لا علاقة له بالبساتين والورثة باعوا الاراضي وتركوا البصرة والجيل الشاب لا علاقة له بالفلاحة، الفلاح كان يرتبط بالنخلة ارتباط مصيري..والقوانين التي كانت تحكم العلاقة بين الفلاح والمالك انتهت وصارت النخلة هامشية في حياة الناس."
طالب عبد العزيز: قبل خراب البصرة
الشاعر(البصراوي) الاكثر تعلقا بمدينته، طالب عبد العزيز، الذي يلقب بـ(الخصيباوي) نسبة الى قضاء(ابو الخصيب) يقول:"موضوع شحة بساتين النخيل يعيش معي..واحد اسباب الامي هي عمليات تجريف بساتين النخيل وطمر الانهار، والحمد لله انا ما زلت محافظ على دونمين من الارض بابي الخصيب وفي كل عام في مثل هذه الاشهر وحتى شهر تموز، يهجم علينا ماء البحر المالح لان اطلاقات المياه العذبة من نهري دجلة والفرات شحيحة لهذا يهجم الماء المالح والنخلة شجرة صبورة وتتحمل، اذا كانت كبيرة، نسبة معينة من الملوحة، تتراوح ما بين 8 الى9 وقد تبلغ 15 مليموز، وحدة لقياس الملوحة بالمياه، لكن الفسائل الصغيرة تموت في مثل هذه النسب من ملوحة المياه للاسف."

ويوضح الشاعر طالب عبد العزيز قائلا:" الكارثة الاولى بدأت بعد 2003 مع عقود التراخيص النفطية، التي حولت مناطق القرنة والمديَنة الى مناطق نفطية وانهت وجود بساتين النخيل، اما جهة شط العرب وهي الغابة الشرقية للنخيل فقد انتهت في الحرب وتصحرت، ومن كوت الزين الى الفاو بحدود 80 كيلومتر طولا، حتى راس البيشة انتهى وجود النخيل او الاراضي الصالحة للزراعة تماما، وكانت المناطق من باب سليمان حتى عويسان، محافظة على بساتينها حيث انتفع السكان من قرار كان قد اصدره صدام حسين بعد عام 1991 والذي منع تمليك الاراضي، وسكن اي شخص في ابي الخصيب لغير سكانه الاصليين، وهذه كانت افضل قراراته للحفاظ على بساتين النخيل، لكن بعد عام 2005، وانتخاب مجلس محافظة البصرة، اصدر المجلس واحدا من اسوء قراراته وهو ادخال منطقة ابو الخصيب ضمن التخطيط العمراني للبصرة وهذه هي الكارثة الكبرى التي تسببت بهجمات سكان ريف العمارة والناصرية والجميع يعرف ان سكان ابو الخصيب مسالمين ومحافظين على بيئتهم واراضيهم، من هنا انا بدأت انحب وانشج حتى هذه اللحظة."
وعن تأثير هذه الكارثة عليه وفي نتاجه الابداعي، قال الشاعر طالب عبد العزيز:"لقد اصدرت ثلاث كتب عن هذه المعاناة، وهي: (قبل خراب البصرة) صدر عام 2012، وتحمل كلفة طباعته الفنان الكبير ضياء العزاوي، وصمم الغلاف الفنان المبدع علي طالب وكانت الوسيط بهذا المنجز الكاتبة الرائعة مي مظفر، و(كتاب ابي الخصيب)، و(الخصيبي)،نسبة الى ابي الخصيب."
يقول:" لمن يتجول في البلدات الجنوبية للبصرة، وفي أبي الخصيب على وجه الخصوص يجد العجب العجاب، فقد عملت الجرافات والشفلات، بالنخل والأنهار ما لم تعمله آلة حرب صدام حسين مجتمعة، حين اتخذ من المدينة حامية لعسكره، وما طريق التعاون الذي شقه بين النخل، بمسافة 120 كلم، من قرية البراضعية نازلا حتى رأس البيشة بالفاو ببعيد عنا، نحن جيل الحرب."، مضيفا:"لا مقارنة بين نظامين هنا، لكن، ليكن الوصف مرعبا، لأن الجرح عميق، وقد صمت غير واحد من أعضاء مجلس محافظتنا، رغم وقوف كثير من أبناء المدينة أمام مكاتبهم صارخين يائسين، لكن لا حياة لمن تنادي أيها الخصيبي. وكان أقصى ما سمعناه من مجلسنا انه أصدر تشريعا يمنع تفتيت البساتين، لكأنهم يعتقدون بأن التشريع في عراقنا اليوم كاف لفعل ما! وكم من القوانين ديس عليها أمام القضاة وأصحاب الرأي، في زمن تفاخر فيه حملة البنادق والمسدسات، على كل ما هو شرعي وإنساني. لكنْ من لا يؤلمه مشهد نخلة تسقط، من لا يوجعه قلبه لمشهد نهر يردم، فلا يخرج من مكتبه شاهرا سيفه انتصارا لتشريعه؟".
ويستطرد بالقول: "قد يقول قائل: ما المشكلة في هذا، فالعالم متغير وهناك غابات كبيرة في العالم تتحول إلى مدن وضواحي، لكن اتركوني أسجل هذا الوصف. فقد أحصى المؤرخون أنهار البصرة فقالوا 600 ، عدا 1000 قناة تفرعت في الأرض، وفي فتوح البلدان يتحدث البلاذري عن 120 ألف نهر، وحتى منتصف القرن الماضي تتحدث الإحصائيات الرسمية عن 150 ألف جريب نخل مثمر في البصرة (الجريب = 3967 متر مربع)، وحتى السبعينات كان هناك 200 مكبس للتمر، وكانت أول باخرة تخرج من فم شط العرب باتجاه أسواق الولايات المتحدة وبريطانيا قادمة من أبي الخصيب. كان العالم لا يعرف من النخل والتمر غير القادم من البصرة".
يختتم الشاعر طالب عبد العزيز حديثه قائلا:"انا انتمي الى جيل فتحنا اعيننا في غابات النخيل وشبكات الانهار وكنا نضيع في البساتين، هذا الفردوس الذي كان قائما كنا شهوده وتنعمنا به والان ننعيه ..الان نرى امام اعيننا كيف يحترق ولا نستطيع ان نفعل اي شيء".
أحمد السعد: تحويل الواقع الى ذكرى
الفنان التشكيلي أحمد السعد، الذي ينحدر من قضاء القرنة حيث يلتقي دجلة والفرات لتكوين نهر شط العرب يكشف بان:"الورثة هم من يمارسون ذبح النخيل..واعني ورثة الاراضي الزراعية عن ابائهم، هم من باع ويبيع بساتين النخيل ليتم تجريفها وتتحول الى اراضي سكنية."، مشيرا الى انه:"في السابق كان النظام(صدام حسين) وبسبب حروبه هو المسؤول عن ذبح النخيل واليوم تتم هذه الكارثة بشكل طوعي".
يوضح السعد قائلا:" انا انحدر من قضاء القرنة، شمال البصرة، حيث لقاء نهري دجلة والفرات، وكانت هناك بساتين النخيل، لكن منطقة شط العرب، شرق البصرة، وابو الخصيب كانت الاكثر كثافة في بساتين النخيل وتنوعها، وكان الفلاح يحب النخلة ويهتم بها جدا وينتظر ثمرها سنويا فالنخيل يحتاج للاهتمام، ولكن اندثار مهنة الفلاحة سيقضي بالكامل على النخيل ..الفلاح تحول الى موظف ومترف وليس له اي اهتمام لمداراة النخيل".
يضيف قائلا:"اتذكر عندما كنت طالبا في ثانوية ام قصر، وهي منطقة صحراوية، لكن كان هناك حزام اخضر من الاشجار المقاومة للتصحر حول مدينة ام قصر وحول بناية مدرستنا، يشكل مساحات خضراء واسعو كانت تمنحنا شعورا نفسيا بالراحة والاطمئنان، اليوم غاب هذا الحزام تماما، كما تغيب غابات النخيل في مناطق واسعة من البصرة."، منبها الى ان:" كان وجود بساتين النخيل يمنح الناس راحة نفسية اضافة الى تاثيرها الايجابي المهم على البيئة، لكننا اليوم نشعر بالتصحر والجفاف".

ويكشف الفنان التشكيلي احمد السعد عن انه لم يتناول :"موضوع هذه الكارثة في اعماله الفنية بصورة مباشرة، كما ان غالبية الرسامين في البصرة اتجهوا الى اسلوب التجريد عندما اكتشفوا ان سوق اللوحات التي تتناول الطبيعة وبساتين النخيل شحيح وليس عليه اي طلب."، مضيفا بان:" النخلة ما عادت شعار محافظة البصرة من الناحية العملية وان كانت صورتها موجودة كأيقونة، فنحن نهدم الاثر ثم نبني له نصب تذكاري، مثلما حدث مع ساعة سورين التاريخية التي كانت في مركز العشار حيث تم تهديمها في الستينيات والان يبنون نصب تذكاري لساعة سورين، لم يكتمل حتى الان. نحن نزيح الاثر ثم نحوله الى ايقونة لنتذكره وكان بامكاننا الحفاظ على الاثر الاصلي ذاته. وهذا ما يجري اليوم مع النخلة، يتحدثون عنها باعتبارها رمز ويذكرون ما قاله فلان وعلان عنها وعن اهميتها لكنهم يقتلونها من اجل تحويل الاراضي الزراعية الى سكنية، وغدا سيقيمون لها نصبا تذكاريا، هذه النخلة امامكم اليوم فلماذا لا تهتمون بها وتحافظون على وجودها؟".
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً