رووداو ديجيتال
من بين عدد لا بأس به من الأفلام السينمائية، العربية والغربية، التي تناولت موضوع الإرهاب، في الشرق الأوسط خاصة، يبرز الفيلم التونسي "الذراري الحمر"، الذي يُعرض حالياً على منصة نيتفليكس (Netflix)، من إخراج لطفي عاشور، الذي شارك في كتابة السيناريو إلى جانب ناتاشا دو بوناشرة، ودرية عاشور وسيلفان كاتونوا، وإنتاج أنيسة داوود عام 2024.
ويروي الفيلم على امتداد 100 دقيقة قصة حقيقية تعكس وحشية جرائم الإرهابيين، حدثت في منطقة نائية من تونس بأسلوب درامي من خلال مراهقين، أبناء عم، "أشرف" (علي الهلالي) و"نزار" (ياسين سمعوني)، إلى جانب مجموعة من الممثلين بينهم: لطيفة القفصي، صالحة النصراوي، الجمعي العماري، وداد الدبابي، يونس نوار، منير خزري، نور الدين همامي، آية بوترعة، ريان قروي، سناء بن محمد جاب الله، ونورة بالعيد.
على الرغم من أن الترجمة الإنجليزية على ملصق الفيلم جاءت "Red Path" (المسار الأحمر)، وهي ترجمة بعيدة عن العنوان التونسي وليست قريبة من ثيمة القصة. عنوان الفيلم "الذراري الحمر" مُعبّر عن حكايته، فكلمة (الذراري) في اللهجة التونسية تعني (الطفل) أو الأطفال أو الأولاد، ربما مستمدة من (ذرية) وتُعبّر عن البراءة، وهذا ينسجم مع الطفل، بطل ومحور أحداث الفيلم، أشرف، أما (الحمر) فهو وصف للقوة والشجاعة، وهذا توصيف لقوة الشخصية والتحولات النفسية التي يعيشها نتيجة إكراهات الواقع التي تجعل منه، أشرف، أحمر بلون الدم الذي سيصدمه تالياً أمام واجبه الأخلاقي تجاه ابن عمه الذي سيحمل رأسه المقطوع إلى أهله في قريته، وطاقة الحب التي يحملها تجاهه، بعمقها الإنساني.
يستند فيلم "الذراري الحمر" على أحداث واقعة حقيقية تجسد القصة المأساوية للراعي، الفتى، مبروك السلطاني، الذي راح عام 2015 ضحية عملية إرهابية هزت الرأي العام الوطني التونسي والعالمي، حيث قام إرهابيون بذبح هذا الراعي "الطفل" أمام أنظار ابن عمه في جبل مغيلة، في ولاية سيدي بوزيد، هناك حيث يعاني السكان من صعوبة الحياة على مختلف الأصعدة، وتوثيق لحظات ما قبل وخلال الذبح، بواسطة الفيديو، لبث الرعب والخوف في قلوب التونسيين.
يُهيئنا المخرج، لطفي عاشور، منذ المشاهد الاستهلالية التي تمتد لأكثر من 10 دقائق لحدث جسيم، ترافقه موسيقى تصويرية تتصاعد مع تنامي القصة نحو الذروة، ويبدأ بإيقاع متراخٍ لكنه سرعان ما يتصاعد، حيث تدور الأحداث في أحد أحراش الشمال التونسي في منطقة شبه معدومة.

تتمحور أحداث الفيلم حول "أشرف" وابن عمه الأكبر سناً "نزار"، وهما يعيشان مع عوائلهم في قرية نائية وسط ظروف شديدة القسوة، ويعملان في رعي عدد قليل من ماعز العائلتين، ولأن الأرض جرداء وقاسية وسط شح الأعشاب والماء، وهذا ما تستعرضه الكاميرا التي تلتقط عدستها محيط وواقع القرية وما حولها، يقترح نزار على ابن عمه التوجه إلى منطقة يعرفها في سفوح جبل المغيلة، والتي كان قد زارها مع جده ووالده سابقاً، طالباً منه عدم إخبار أمه بذلك. يجتاز الصبيان الأسلاك الشائكة لمنطقة عسكرية تنتشر فيها الألغام ويتسلقان صخور الجبل حتى يصلان إلى بركة شحيحة بمياهها، ومع ذلك هما سعيدان لارتواء الماعز والاغتسال واللعب بهذه البركة، حيث يخبر نزار ابن عمه بأن هذا المكان قبل مليون سنة كان بحراً واسعاً تعيش فيه الحيتان. وبين وقت وآخر يطلب نزار من ابن عمه الهدوء دون أن يشرح السبب، الذي سنعرفه عندما تهاجمهم مجموعة من الرجال ويضربون رؤوسهم بقسوة على الصخور حتى يفقد أشرف الوعي.
يستيقظ أشرف وهو يهز قدم نزار الممدد قربه، لكن أحد الرجال يسلمه رأس ابن عمه ويأمره بأن ينقله للقرية، مع رسالة "حتى يصمتوا وما يتكلموا بعد". هذه الرسالة موجهة بالضبط لشقيق نزار الذي يتعامل مع الشرطة ويتجسس على الإرهابيين، جماعة داعش، مقابل أجور، وهذه المعلومة لم يكن أشرف يعرفها.
يعود "أشرف"، وهو الطفل الذي لم يتجاوز الـ14 سنة، برأس "نزار" في حقيبة الطعام التي كانت معهما، دون الجثة، إلى القرية وقد بدا عليه الإعياء وآثار الصدمة ولا يعرف كيف يتصرف، فيقوم بتعليق الحقيبة التي وضع فيها رأس ابن عمه على غصن شجرة باحثاً عن قريبتهم "رحمة"، وهي تلميذة بمدرسة القرية وبعمر نزار تقريباً أو أصغر، ويخبرها بالتفاصيل لتساعده، مستعرضاً معها ذكرياتهما حيث يخبرها بأن نزار أخبره بأنه يحبها وقرر أن يتزوجها. تقرر رحمة نقل الرأس إلى العائلة وإخبارهم بالمصيبة، وتقول له إن "الكبار هم يعرفون ماذا يفعلون".
بالتأكيد ستكون الصدمة جبارة لأم نزار التي لا تكاد تصدق ما حدث لابنها الذي ما يزال فتى، تجتمع العوائل، برجالها ونسائها، ويضع أحد الرجال رأس نزار في الثلاجة من أجل ألا يتعفن، ويتصل أخو "نزار" بالشرطة لإبلاغهم بالحدث، وإحضار باقي الجثة، لكن تبدو الشرطة غير مبالية بالأمر وتتماطل بحجج واهية. يضعنا المخرج وسط غرفة فقيرة ازدحمت بالأشخاص، وكأننا نجلس معهم ونفكر ما يجب أن نفعله، ونرى أم نزار وهي جالسة أمام الثلاجة التي فيها رأس ابنها، مطأطئة الرأس، ناهيك عن الجو العام على كل العائلة في مصيبتهم هذه.
المخرج لطفي عاشور ينقل الحدث إلى تراجيديا عميقة، فالأم ترفض رفضاً قاطعاً دفن الرأس دون باقي الجثة، تريد أن تغسله وتعطره وتدفنه كاملاً: "خرج مني كاملاً ويعود للأرض كاملاً"، هكذا تُصر، محذّرة من أن الذئاب ستأكله الليلة. يعمد أشرف ليلاً إلى إطلاق الكلاب التي تعرف أشرف جيداً لحماية الجثة من الذئاب. لكن من سيغامر بالذهاب إلى الجبل وقطع مسافات مزروعة بالألغام، ناهيك عن وجود مقاتلي الدولة الإسلامية الذين يسيطرون على الجبل وما حوله؟ كما أن أم أشرف تعارض بقوة عودة ابنها إلى الجبل خوفاً عليه بالتأكيد.
يعيش أشرف بين شعورين متناقضين، الأول شعور داخلي بالذنب جسدته حواراته مع "رحمة" ويخبرها بعدم رغبته في البداية في الوصول إلى مكان الجثة مقطوعة الرأس، وزاد تعميق هذا الإحساس الاتهامات الضمنية التي تلقاها من قبل أفراد العائلة الذين بدوا في بعض المشاهد وكأنهم يعتبرونه مسؤولاً إلى حدٍّ ما عما حصل، لكنه سيرضخ بالتالي للذهاب إلى الجبل.

يصيب رجال القرية اليأس من وصول الشرطة ومساعدتهم في نقل الجثة، خاصة وأنها في منطقة محظورة، فيقررون التوجه إلى الجبل مع مرشدهم أشرف كدليل إلى موقع نزار في رحلة مخيفة بين هجوم الإرهابيين والألغام المزروعة في الطريق الوعرة، ومأساة داخلية معقدة ودراما نفسية تخص أشرف، الذي يبقى يرى شبح ابن عمه ويتحدث معه، في مشاهد تجمع بين الواقع والخيال.
يعود الرجال وهم يحملون جثة نزار التي كانت تحت حماية الكلبين اللذين كانا قد أطلقهما أشرف. كان التعب قد نال منهم في رحلتي الذهاب والإياب. واشتغل المخرج على رسم مشاعر العائلة بواسطة كاميرته للحظات استقبال الجثة مستخدماً ما بين اللقطات القريبة والبعيدة، أي بين التركيز على ملامح الأفراد وتفاعلاتهم الجسدية والنفسية من جهة، وآثار الإرهاب على عائلة الضحية، وقسوة الحياة على سكان تلك المنطقة من جهة أخرى، متعمداً توظيف مشاهد تلبد السماء بالغيوم وزمجرة الرعد ووميض البرق، للدلالة على بركان الغضب في نفوس أهالي المغيلة.
تتحول "رحمة" إلى الصديقة الأقرب لأشرف بعد أن فقدا صديقهما الثالث نزار، وسنشاهد خلال مشهد ذهابها إلى المدرسة حفظ الطفل "أشرف" لمحتوى الدرس، رغم انقطاعه عن الدراسة، وعندما تسأله رحمة عن سبب انقطاعه عن المدرسة يوضح لها بأنه الابن الوحيد لأمه وهو يساعدها في الرعي، وأن انقطاعه عن الدراسة ليس بسبب تكاسله أو رفضه للتعليم، بل دفعته ظروف الحياة القاسية لهذا الانقطاع، وهو ما عبّر عنه الطفل خلال إلقائه لدرس "علوم الحياة والأرض"، حيث تحدث عن الحيوانات والمناطق التي تستقر فيها حسب الفصول، وإشارته إلى نزوع هذه الحيوانات إلى الهجرة أو السبات بسبب الظروف المعيشية.
ورغم كل الحزن والوجع الذي نقله الفيلم، إلا أنه ضمنه أيضاً مشاهد انفراج وفرح عبّرت عن حب سكان المنطقة للحياة، من خلال مشهد سابق زمنياً لحفل عرس أخ نزار من خلال ذاكرة رحمة، حيث أبرز أحاسيس الفرح والبهجة وإقبالهم على الغناء والرقص، بالإضافة إلى تضمين العمل إشارة إلى المستقبل من خلال الرضيع الذي يبرز في أكثر من مشهد، رغم ضبابية هذا المستقبل من خلال اعتماد اللون الرمادي الذي طغى على مختلف أطوار الفيلم.
كرر المخرج عاشور ظهور شبح نزار أمام أشرف والحديث معه، وهي مشاهد أقرب إلى التراجيديا الشكسبيرية في حديث هاملت مع شبح والده. شبح نزار ظهر أولاً حاملاً رأسه بيده، في تجسيد تشكيلي سريالي، ثم صار يظهر كاملاً، وسيماً، مبتسماً، يمرر لابن عمه رسائل عن الحياة والموت خلال مجموعة من الحوارات التي تمرر رسائل هامة، ففي حوار يمنع نزار ابن عمه من أخذ رجال العائلة إلى مكان جثته لأنهم سيدفنونها وعند ذاك لن يعد بوسعه اللقاء به، فهو الآن يلتقيه لأنه حر، حتى لو كانت جثته قد تفسخت. وفي مشهد عودتهم إلى القرية، سيلتقون بـ"رحمة" التي كانت تبحث عنهم، يجلسون لأخذ استراحة، يودع أشرف ورحمة نزار من خلال لمس كفه.
لم يكن "نزار" في الفيلم سوى إشارة إلى الراعي مبروك السلطاني، الذي اغتاله الإرهابيون في جبل المغيلة وقطعوا رأسه سنة 2015، ثم تم قتل شقيقه سنة 2017 بنفس الطريقة الوحشية. لكن المخرج لطفي عاشور في فيلمه "الذراري الحمر" غيّر مجرى حياة أشرف عندما نقله مع عمه إلى المدينة، بحسب نصيحة من أمه بأن الإرهابيين عرفوه وعرفوا مكانه وبإمكانهم ذبحه في أي وقت يشاؤون. وفي مشهد وداعه لرحمة، التي تبقى تلاحق السيارة وهي تلوّح له، في إشارة إلى أنهما سيلتقيان ذات يوم، إذ لم يتبقَ لها أحد بعد تركه للقرية وموت نزار.
لطفي عاشور، أهدى في خاتمة الفيلم "هذا العمل إلى روحي مبروك السلطاني وأخيه، وروح والدتهما التي توفيت سنة 2020". وقد جسدت دورها باقتدار كبير الفنانة لطيفة القفصي. وهو، المخرج، لم يستعرض من خلال لافتات تقليدية إدانته للإرهاب، بل وثّق بواقعية جرائم الإرهابيين أمام العالم كله.
حاز فيلم "الذراري الحمر"، وهو إنتاج مشترك تونسي وفرنسي وبلجيكي وسعودي (صندوق مهرجان أفلام البحر الأحمر) بمشاركة قطرية، على العديد من الجوائز الدولية، آخرها جائزة اليسر الذهبية لأفضل فيلم طويل وجائزة أفضل مخرج ضمن مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وجائزة أفضل فيلم في مهرجان الفيلم الفرنكوفوني الدولي بنامور، وقدّم في عرضه العالمي الأول في تموز 2024 في مهرجان لوكارنو. كما حصل بطل العمل الطفل علي الهلالي على تنويه في مهرجان سينما البحر الأبيض المتوسط ببروكسل.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً