معد فياض
تجنبت المخرجة، الويلزية من اصل مصري، سالي الحسيني، بحذر ذكي، ومن خلال سيناريو محبوك بحرفية وحوار عربي انكليزي، منسوج بروح شرقية، وايقاع سريع، الوقوع تحت تأثير الاشرطة الاخبارية والوثائقية التي عرضت مرارا وتكرارا انباء مصورة عن ضحايا قوارب الموت، وإن كانت قد استفادت منها بوعي معرفي، في قصص هجرات الشرق اوسطيين والافارقة وهم يحلمون بالعبور الى اوربا، دافعين حياتهم ثمنا لتحقيق هذه الاحلام. ففي فيلمها الروائي الثاني، السباحون(The Swimmers)، الذي كتبته بالاشتراك مع جاك ثورن، كان فيلمها الروائي الاول، الاخ (The Brother)، تختزل حكايات الهجرة والتضحيات التي تقدم على مذبح الامنيات والتمنيات بالعيش بامان في اوربا هربا من سوء الاوضاع الامنية والاقتصادية والاجتماعية.
وبالرغم من ان تصنيف فيلم السباحون (The Swimmers)، الذي يعرض حاليا على شاشة نيتفليكس (Netflix)، "درامي اميركي" الا انه يبدو شريطا سينمائيا مختلطا، لبنانيا او مصريا متطورا في صناعته وبقالب اوربي، في حرفيته، اكثر منه اميركي باستثناء الانتاج الذي تصدى له كل من: علي جعفر، إريك فيلنر، تيم بيفان، تيم كول، ومع ان انطلاق احداثه يفترض ان تكون من سوريا ومن المجتمع الدمشقي بالذات، ومن ثم تنتقل الى تركيا واوربا، وصولا الى برلين، الا ان الفيلم الذي بدأ بتصويره عام 2021، وتم عرضه في صالات المملكة المتحدة في 11 نوفمبر 2022 ،اقتصر تصوير مشاهده في تركيا والمملكة المتحدة وبلجيكا والمانيا.
يستند فيلم السباحون على قصة حقيقية، خاصة عندما يستعرض في نهايته مصائر ابطاله في الحياة، او في الاقل مزج بين الواقع والسيناريو الذي ابتعد عن فكرة استنساخ الاحداث واثثه بالتقاطات مرحة خففت من كآبة واقعه. فقصة الفيلم باختصار، تتناول الاحداث السورية المؤلمة، منذ الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في 2011، واسلوب تعامل النظام بقسوة مع مواطنيه واصرار فتاتنان سوريتان لتحدي الظروف وتحقيق احلامهما رغم مخاطر الاوضاع.
رصدت سالي الحسيني حياة عائلة بطل السباحة عزت مارديني (الممثل الفلسطيني علي سليمان)، وهي عائلة متوسطة الحال، ليست مترفة تماما بل منفتحة فكريا بفضل تفهم الاب والام، وابنتيه:يسرى وسارة مارديني(الممثلتان اللبنانيتان الشقيقتان ناثالي ومنال عيسى على التوالي)، وزوجته ميرفت مارديني(السورية كندة علوش)، وتعمدت المخرجة عدم اظهار او التلميح لديانة العائلة التي يصر الاب فيها على تدريب ابنتيه السباحة املا في ايصالهما الى البطولات الاولمبية التي حٌرم هو منها بسبب التحاقه القسري بالجيش السوري، التجنيد الالزامي.
نحن في عام 2011، حيث انفجرت المظاهرات والاحتجاجات في عدد من المدن السورية، لكن دمشق، التي تعيش فيها عائلة مارديني، لم تكن قد توترت فيها الاوضاع بعد، والحياة تجري فيها بصورة طبيعية، حيث المقاهي والحانات المختلطة التي ترتادها الشابات، يسرى وسارة وصديقاتهما، مثلا، الى جانب ابن عمهمها نزار(أحمد مالك) واصحابه، وقضاء ليلة العطلة الاسبوعية في حلقات الرقص الغربي.
ومنذ وقت مبكر بالفيلم يظهر التناقض بين يسرى الملتزمة بتمريناتها حرصا على تحقيق امنية الاب، وسارة المتطلعة للعيش بحرية وعدم اهتمامها بالحلم الاولمبي بالرغم من استمرارها بالتدريب على السباحة تحت اشراف والدها. تمر السنوات وتتصاعد وتيرة العنف في سوريا، مشاهد القتل التي كانت الأسرة تشاهدها فقط على التلفاز والإنترنت، أضحت منتشرة في المناطق السكنية، يسرى وسارة تتعرضان للتفتيش والتحرش من قبل الجنود في الشوارع، تُقتل صديقتهما المقربة، يحاولان المضي بحياتهما قدماً، متجاهلتين كل الخطر الذي يحدق بهما من كل جانب، تستمر يسرى في التدريب ولا تتوقف ولا تتراجع عن حلمها، حتى حين تخبر أختها سارة أنها يجب أن تستيقظ باكراً من أجل التمرين، تسألها أختها "لمن ستسبحين؟ لقد انتهت سوريا، تلاشت ولم يعد هناك وطن تسبحين باسمه".
رغم كل الظروف الصعبة والقذائف التي كانت تحصد أرواح السوريين يومياً استمرت يسرى في التدريب، حتى وقعت قذيفة في المسبح حين كانت بداخله، واستطاع والدها أن ينقذها في اللحظة الأخيرة، وهنا بدأت سارة التساؤل عن جدوى الحياة في سوريا التي تحدق بها الأخطار من كل جانب، فتقترح على أختها السفر الى المانيا وتعمل على اقناع عائلتها بتحقيق ذلك منطلقة من انه لم يعد لهم اي شيء في سوريا، حتى احلام الاولمياد تبخرت، كما انها تنطلق في اقناع العائلة من ان يسرى ما زالت تحت السن القانوني، دون الـ 18 عام، وسوف تستطيع تقديم طلب لم شمل الاسرة، الاب والام والشقيقة الصغرى، في المانيا، وبذلك يمكن لأسرة مارديني أن تبدأ حياة جديدة في أوربا، بعيداً عن الحرب الداخلية والاضطرابات الامنية، ويمكن ليسرى وسارة أن تواصلا السباحة لتحقيق حلم المشاركة في الألعاب الأولمبية.
يلاقي مقترح سارة الرفض من قبل الاب، في البداية، فكيف له ان يترك ابنتيه تسافران في رحلة غير آمنة الى المانيا لوحدهما، لكنه سيقتنع بضغط من الام وبمواجهة الواقع الصعب الذي تعيشه العائلة في دمشق الذي لن يضمن مستقبل البنات او بقائهم على قيد الحياة، وتضفي موافقة ابن العم نزار على السفر مع الشقيقتين عنصرا مشجعا لموافقة الاسرة على سفر سارة ويسرى، على ان تذهبا الى اسطنبول ومن هناك ياخذهما مهرب مجري الى المانيا، حسب وصايا الاب الذي يمنحهما عصارة ما ادخره من مال(20 الف يورو) مع التشدد بعدم العبور بواسطة القوارب.
لكن واقع الحال في اسطنبول وتجاهل نزار وسارة لتعليمات عزت مارديني، الاب، استعجالا للوصول الى المانيا، تدفعهم للتورط بالتعامل مع مهرب تركي محتال يتقاضى عن كل شخص الفين يورومقابل ضمان ايصالهم الى اليونان، وكما في غالبية قصص التهريب إن لم تكن جميعها، سيعرف الجميع، عندما يلتقون عند ساحل البحر، انهم تعرضوا للاحتيال، إذ لم تكن هناك يسرى وسارة فقط، لكن عدداً كبيراً من اللاجئين ينتظرون النجاة أو الموت، أيهما أقرب، يدفعون كل ما يملكون من أجل المجهول، في هذا الرحلة تماهت يسرى وسارة مع الآخرين، مع شادا المرأة الإريترية، التي هربت من عنف الزوج بصحبة ابنتها الرضيعة، مع الصوماليين والباكستانيين والشباب الهاربين من أفغانستان، مع كل الذين كان وطنهم جحيماً وسُلبوا الحرية والطمأنينة، ويجد الجميع، سارة ويسرى ونزار اضافة الى اكثر من 20 شخص من قوميات مختلفة من نساء واطفال انفسهم في قارب مطاطي متهالك غير صالح لعبور نهر ضيق وليس البحر، خاصة بعد ان يتعطل محركه في بداية الرحلة الخطيرة.
الرحلة تستغرق، حسب الفيلم، اكثر من ساعتين يشارف فيها الجميع على الغرق، فيبادرون الى رمي ما يحملونه من متاع وملابس في البحر للتخفيف على الزورق من الحمل الثقيل، وكان اصعب قرار امام يسرى هو رمي ميدلياتها التي حصلت عليها من بطولات محلية في البحر، وعندما تتفاقم الاوضاع وتكون اكثر سوءا، تقذف يسرى بنفسها بين امواج البحر وتقرر الوصول سباحة كي لا يكون وزنها عبئا على الاخرين، وهكذا تقرر ايضا سارة، وهنا تبدأ عملية شد الانفاس، فالزورق المطاطي يمتلأ بمياه البحر، ويحاول الجميع افراغه من المياه، وكمتلقين ندرك انه سيغرق لا محالة، بينما تتحديان سارة ويسرى، بعناد وبشجاعة، الامواج وهما تشقان البحر سباحة وكانهما تمضيان لنيل البطولة الاولمبية. وفي لحظة توقعنا غرق الزورق بمن فيه، وحسن فعلت المخرجة بعدم اغراقه ليتحول الى تراجيديا حزينة تغازل عاطفة المتلقين، تظهر اليابسة اعلانا عن وصولهم الى السواحل اليونانية.
سيعبر ارتماء سارة ويسرى على رمال الساحل اليوناني عن مدى تعبهما من اجتياز غالبية المسافة بين تركيا واليونان سباحة من جهة، وعن شعورهما بالتحرر من الموت غرقا في البحر او قتلا في سوريا، وعن سعادة قلقة بالعبور الى اوربا. بعد استراحة قصيرة يقرر الجميع المشي باتجاه اول مدينة، وهم يتخلون عن ستر النجاة البرتقالية سنشاهد عشرات الالاف من هذه الستر مرمية عند البر اليوناني في إشارة واضحة الى اعداد المهاجرين الذين سبقوهم الى تلك البقعة، وسيبقى هذا المشهد الذي التقط من الجو، ماثلا في الذاكرة الصورية للمشاهد.
فيلم (السباحون) يقوم على فكرة التحدي، او خوض سلسلة من التحديات والمغامرات والمفاجآت، وهذا ما استمرت المخرجة والكاتبة سالي الحسيني على ضخه من مشاهد وبايقاع متسلسل ومتسارع الى المتلقي وقد نجحت جدا في ذلك، ففي كل مرحلة هناك قصة او مغامرة قد تؤدي بحياة اي منهم، فالوصول الى بقعة نائية في اليونان لا يعني نهاية الرحلة، بل هي بدايتها الحقيقية. بعد الوصول إلى اليونان كان على يسرى وسارة وباقي اللاجئين أن يستكملوا رحلتهم براً، وذلك من خلال تتبع خط السكة الحديدة من محطة لأخرى عبر اليونان ومقدونيا وصربيا والمجر، النمسا ثم ألمانيا، وفي كل محطة من محطات هذه الرحلة يظهر المزيد من المحتالين وتجار الازمات لابتزاز اللاجئين اموال طائلة مقابل وعود كاذبة لايصالهم الى المانيا، وفي واحدة من المراحل تعرضت يسرى الى محاولة اغتصاب من قبل عامل مجري لكن تسارع شقيقتها سارة ونزار وصديق باكستاني الى انقاذها.
يصل أغلب اللاجئين سالمين إلى المجر، استطاعت يسرى وسارة ومعهما نزار أن يستكملوا رحلتهم إلى ألمانيا، ولكن لاجئين الآخرين، ومنهم شادا الارتيرية، تم ترحيلهم إلى بلادهم. وسوف تنتظرهم الكثير من الاجراءات والانتظارات ليحظوا بفرصة الاستقرار في ملاجئ المهاجرين التي تزدحم بالبشر من جميع القوميات. في برلين رفضت السلطات الحكومية طلب يسرى بلم شمل العائلة لأنها وإن كانت لم تستكمل لـ18، إلا أنه وبسبب طول الإجراءات الروتينية المطلوبة التي تنتظرهم سوف تبلغ السن القانون (18 سنة) خلال الانتظار.
تاجل تحقيق الحلم الأول، ولم يكن أمام يسرى سوى التمسك بالحلم الثاني، وهو المشاركة في الألعاب الأولمبية كما وعدت والدها. بعد أن تستقر يسرى وأختها سارة في إحدى مخيمات اللاجئين، تقرران البحث معاً عن نادٍ رياضي قريبا من ملجئهما حتى تتدربان على السباحة من أجل الاستعداد للمشاركة في الألعاب الأولمبية، فتعثران على سفين (ماتياس شفيغوفر، كاتب ومخرج وممثل الماني) الذي يقرر مساعدتهما بعد ان يعرف انهما عبرا البحر من تركيا الى اليونان سباحة.
في هذه المرحلة ، وبعد الكثير من التدرّب تقرر سارة عدم المشاركة في الألعاب الأولمبية، لأنها وجدت لنفسها هدفاً آخر بعيداً عن حلم والدها، وهو إنقاذ اللاجئين من الغرق على الحدود اليونانية، في هذا الوقت تتفاجأ يسرى بانها لا تستطيع المشاركة باسم بلدها سوريا لاسباب قانونية بل يجب ان تشارك باسم فريق اللاجئين، فترفض ذلك بداية، ثم سرعان ما تتراجع عن قرارها وتشارك من أجل أبيها وعائلتها وصديقاتها في وطنها، وعليها أن تسبح وتفوز أيضاً من أجل أختها، ومن أجل شادا، ومن أجل كل اللاجئين الذين يحلمون بحياة جديدة بعيداً عن الصراعات والحروب والعنف والنزاعات، وبالفعل تصل مع فريق اللاجئين الذي يضم رياضيين من مختلف القوميات الى مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية للمشاركة في أولمبياد 2016 وتحصد الميدالية الذهبية في سباحة 200 متر فراشة .
لقد تعاملت المخرجة والكاتبة سالي الحسيني مع الحدث باعتباره انساني وليس مؤطرا لبلد معين او عائلة او شخوص بذاتهم، وان كانت القصة والشخوص من سوريا، فما حدث ويحدث في سوريا لا يختلف في جوهره عما حدث في العراق او افغانستان وليبيا، ورحلة المهاجرين في قوارب الموت التي ابتلعتها مياه البحور لم تميز بين الجنسيات والقوميات والاعمار، وهذا ما ابرزته الحسيني بوضوح، منبهة على ان تجار الازمات لا يختلفون سواء في تركيا او صربيا او المجر من اجل ابتزاز المهاجرين الذين يدفعون كل ما جنوه بحياتهم ثمنا من اجل حريتهم وتحقيق احلامهم.
لكن الحسيني اقتربت من روح واقع الحياة السورية او الشرق اوسطية، ولم يكن ذلك صعبا عليها خاصة وانها تنحدر من مصر، من خلال الحوار العربي ومشاهد مقتنصة من الحياة الشامية، اضافة الى الموسيقى، من تأليف ستيفن برايس، والاغاني المختارة، واجتهدت بالحفاظ على الايقاع السريع للفيلم كي تبعدنا عن الاحساس بالملل، معتمدة على اللقطات القصيرة زمنيا.
بالتاكيد ان فيلم السباحون "The Swimmers" ليس وثائقيا لكنه بمزاج اخراجي يختلط في التجريد مع الواقعي ليكون له تميزه.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً