واقعة "الطف" في المشهد الابداعي العراقي المعاصر.. مسرحية "الحر الرياحي" انموذجاً

01-07-2025
معد فياض
معد فياض
الكلمات الدالة الحر الرياحي
A+ A-
رووداو ديجيتال

تحتل واقعة الطف، استشهاد الامام الحسين بن علي بن ابي طالب، موقعاً مأساوياً في نفوس العراقيين، بمختلف طوائفهم الدينية والمذهبية والقومية، ويعبرون عن ذلك بزياراتهم، خلال المناسبات، وغير المناسبات المراقد الشيعية في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء.
 
واقعة الطف تحولت من طقوس مذهبية الى طقوس اجتماعية وثقافية، حتى انها في اليوم العاشر من محرم، اليوم الذي قتل فيه الحسين، تتجسد في غالبية المدن العراقية واقعة الطف في ميادين عامة تتحول  الى عرض مسرحي مفتوح في الهواء الطلق تسمى (التشابيه) وتجسد الحدث الجلل للمقتل المآساوي للحسين وأخيه العباس واتباعهما وسبي عائلتهما التي يعود نسلها للرسول محمد (ص).
 
المشهد الحسيني لم يتجذر في العادات والتقاليد الاجتماعية العراقية فحسب بل تكرس جليا في الابداع العراقي المعاصر، شعراً ومسرحاً وتشكيلياً، وهنا لا نعني فقط الشعر الذي تخصص برواية قصة المقتل والذي يتلى في العزاءات الحسينية، او ما يطلق عليه شعبياً بالـ (مقتل) والذي يقرأه او يردده (الرادود الحسيني)، فهناك اسماء تميزت على مر التاريخ في اساليب التلاوة او القراءة وحسب مقامات موسيقية حزينة قادرة على تفجير الحزن في نفوس المستمعين، ولهذه القراءات امتدادات تاريخية عميقة في الوجدان العراقي.
 
تناول الشعراء العراقيين واقعة الطف برؤية رمزية. رمزية البطولة والمبادئ والتضحية من اجل هذه المبادئ وليس باسلوبية رواية المقتل وتجسيد المآساة التي هي حاضرة اصلا في الذاكرة المتوارثة. هذه الواقعة، التي تجسدت في معركة كربلاء، كانت لها مكانة بارزة في الشعر العراقي، حيث تناولها الشعراء العراقيون بمختلف أساليبهم وأنماطهم الشعرية. انعكس هذا الحدث الأليم في قصائد تعبر عن الحزن والألم والتضحية، وتخلد ذكرى الحسين وصحبه.
 
واقعة الطف شعرياً
 
يرسم لنا الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري في مقطع من قصيدته عن الحسين، مشاهد تعكس التأثير الروحي في مقام الحضرة الحسينية، وهو، الجواهري، ابن الطقوس الدينية فهو ولد وعاش وترعرع في النجف، حيث مرقد علي بن اب طالب، المدينة المقدسة الاولى لدى الشيعة خاصة والعراقيين عامة، وتردد بين مدينته ومدينة كربلاء، ثاني المدن المقدسة لدى الشيعة والتي نضم مرقدي الحسين واخيه العباس. 
 
يقول الجواهري في الحسين:
 
"تلـوذ الـدهور فمن سجد علـى جانبيه ومن ركـع
شممت ثـراك فهب النسيم نسيم الكرامة من بلقــع
وعفرت خدي بحيث استراح خد تفرى ولم يضــرع
وحيث سنابك خـيل الطغاة جالت عليه ولـم يخشـع
وخلت وقد طارت الذكريات بروحي الى عالم ارفع
وطفت بقبرك طواف الخيال بصومعة الملهم المبـدع
كأن يداً من وراء الضريح حمـراء مبتورة الأصبـع
تمد الى عـالم بالخنـوع والضـيم ذي شرف مترع".
 
يذهب الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد الى منحى آخر في التعبير عن مآساة واقعة الطف والانتماء الى الحسين كبطل ثوري ضحى من اجل مبادئه. في قصيدته "في رحاب الحسين" يتلو اعترافاته السامية عن هذا الانتماء الروحي، وهو، عبد الرزاق عبد الواحد، المندائي الذي يجسد انتماء العراقيين بمختلف طوائفهم للحسين الذي استشهد دفاعا عن مبدأ وليس عن مغنم.
 
في قصيدته " في رحاب الحسين" كتب الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد:
"
قَدِمتُ .. وَعَفْوَكَ عن مَقدَمي
حَسيراً ، أسيراً ، كسيراً ، ظَمي
قدِمتُ لأ ُحرِمَ في رَحْبَتَيْك
سَلامٌ لِمَثواكَ من مَحرَم ِ
فَمُذْ كنتُ طفلاً رأيتُ الحسين
مَناراً إلى ضوئِهِ أنتَمي
ومُذْ كنتُ طفلاًوجَدتُ الحسين
مَلاذاً بأسوارِهِ أحتَمي
وَمُذْ كنتُ طفلاً عرَفتُ الحسين
رِضاعاً.. وللآن لم أُفطَم".
 
ان اروع تجسيد رمزي عن واقعة الطف جسده الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في ملحمته الشعرية "الحر الرياحي"، وهو استاذ الشعر الكلاسيكي العربي بلا منازع، وعبر عن مآساة الحر الرياحي عاكساً في حواراته الداخلية القيمة الانسانية لتضحية الحسين في سبيل الدفاع عن المبادئ.

 

 
الحر الرياحي الذي كان يقود اكثر من 70 الف فارس، حاصر الحسين كي لا يرجع الى المدينة ودفعه الى مسرح القتل دون ان يقف معه او ينحاز اليه، لكنه في لحظة تاريخية انظم اليه وحده وليس مع جيشه، مع انه لم يكن مسلماً، بل مسيحياً، لكنه انتصر لنفسه بهذا الانحياز الذي عادل كل احداث حياته.
 
في تقديمه لملحمة، او لقصيدة "الحر الرياحي" كتب الشاعر والكاتب والناقد جبرا ابراهيم جبرا" نحن هنا اما قبل وقوع الحدث، أو بعده، وما من مجابهة الا بالتذكر؛ لأن المسرحية لا تستعيد الفعل التأريخي، بل تنتزع منه معناه، فتكون المجابهة الوحيدة هي بين الحـُر وضميره، بين الشمر وضميره، وهذه المجابهة هي النابض الحقيقي الذي تتحرك به المسرحية، ويتوثب به شعرها، لعل الطريقة الوحيدة لتمثيل هذا الضرب من المجابهة، التي هي مجابهة اصوات وأخيلة، هي الطريقة السينمائية، حيث يمكن تقطيع الصور وتركيب منتجتها وتركيب الأصوات وخلق الأخيلة، التي تتقدم وتتراجع، تهدر وتستكين، فالمسرحية هنا هي سيناريو، واذا قرئت كذلك بان تصاعداتها الدرامية وهي تتحقق في أعماق النفس بين طبقات الشخصية المتصارعة مع ذاتها.
 
يعبر الحر الرياحي عن دواخله قائلاً:
 
"ها هي الشمس تنهض ُ
والناس تنهض ُ
والكلمات القليلة تنهض
تنهض احرفها كالعماليق ِ عمياء مجنونة
تتخبط بين حناياك
أي ّ ُ الطريقين أوضح".
 
جبرا ابراهيم جبرا في الحقيقة لم يكتب مقدمة بل دراسة مقارنة بين مسرحية او ملحمة الحر الرياحي لشاعر كلاسيكي عربي وبين ملحمة او مآساة مكبث لشاعر انكليزي ملحمة هو وليم شكسبير، عندما يقارن بين الشمر، قاتل الحسين، وماكبث قاتل الملك.
 
"الحر الرياحي" مسرحياً
 
الا انه منذ صدور المسرحية الشعرية "الحر الرياحي" ككتاب عن الدار العربية للموسوعات عام 1982، ورغم اهميتها ابداعيا، خاصة وان جبرا ابراهيم جبرا من كتب التقديم لها، الا انها بقيت مشروع كتاب للقراءة والنقد والتعليق، ورغم ذلك لم تنل نصيبها المناسب، ككتاب، من النقد ربما لاسباب سياسية فهناك من تعامل معها باعتبارها تتناول حدث مذهبي، شيعي، لكن من يقراها بتمعن سيجدها عملاً ادبياً راقياً، تتناول موضوع تاريخي بلغة شعرية مبدعة.
 
حتى جاء، وقتذاك مخرج شاب مبدع، كريم رشيد، ليفاجئ الاوساط الثقافية بكل فروعها باخراجه "الحر الرياحي" مسرحياً. هنا ظهرت هذه المسرحية الشعرية للنور كعمل درامي ابداعي مهم، بل عرف الجمهور بمساحاته الواسة بالمسرحية، هنا انا لا اقلل من العمل كرائعة شعرية بل ان النص يبقى محدودا، كنص ابداعي، حتى يتم تجسيده مسرحياً او سينمائياً، هذا ما حدث مع روائع وليم شكسبير، او غيره من الشعراء والكتاب.
 
آنذاك كتبت، انا، في الصفحات الثقافية لجريدة "الجمهورية" في 20 شباط 1994 عن هذا الانجاز المدهش، وتحت عنوان "الحر الرياحي وجماليات المسرح"، وقلت في التقديم "باخراجه مسرحية الحر الرياحي يحسم المخرج والباحث المسرحي كريم رشيد الهاجس الداخلي الذي كان يدور في داخلنا كمثقفين وفي داخل أكثر من مخرج مسرحي. ومنذ أن صدرت المسرحية ككتاب عام 1982 كلما قرأت المسرحية تسائلت من سيخرجها للمسرح، وكلما سألت مخرجاً مسرحياً عن هذا الهاجس كان الرد، هذا عمل صعب ومعقد يحتاج أمكانيات وجهود جبارة وامكانيات مادية كبيرة، وها هو كريم رشيد يفاجئنا ويفاجيء المسرح العراقي بالحر الرياحي ."
 
كانت الاوضاع شائكة وقتذاك، 1994، والتفسرات والتأويلات لأي عمل ابداعي ممكن ان تقود مبدعيها للعلا او للزنازين او حبل المشنقة، ومجرد التفكير باخراج وتقديم عمل يؤول بانه طائفي، شيعي، مثل "الحر الرياحي" كان كفيلاً بعدم دعمه من اية جهة كانت.
 
لكن المخرج كريم رشيد وبدعم الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد وبعض من كادر جامعة بابل التي انتجت العمل، تمكنت "الحر الرياحي" ان ترى النور والتي انتجت بامكانيات متواضعة للغاية، وجسد شخصياتها اساتذة وطلبة قسم المسرح في كلية التربية الفنية بجامعة بابل، منهم: ضياء كريم، سامي الحصناوي، سلام الأعرجي، رغد حميد، شيماء، وتم تقديمها على المسرح الوطني في  بغداد ضمن مهرجان بغداد للمسرح العربي 1994، ثم تتابع عرضها لمدة ثلاثة أيام بعد المهرجان قبل أن يتم إيقاف العرض.
 
يقول المخرج المسرحي كريم رشيد، وهو حالياً كاتب ومخرج ومدرب في المسرح البلدي السويدي في مالمو وعضو لجنة المسرح في مجلس الدولة للثقافة والفنون، وعضو لجنة اختيار عروض مهرجان المسرح السويدي، عن مسرحيته "الحر الرياحي": "في شهادات مختلفة لنقاد وفنانين ومثقفين عراقيين دونتها الصحافة العراقية التي أحتفت بمواجهة العرض لسطلة الرقيب حينها، يظهر بوضوح أن العرض قدم لغة فنية مغايرة لما هو متوقع في أستثمار واقعة الطف، حيث أنه لم يرتمي في أحضان شعائر التعازي الحسينية بل أستلهم من المحتوى الفكري للواقعة المأساوية ليعيد أنتاجها بشكل عرض يترادف فيه النص الشعري مع النص البصري".
 
وأضاف: "أمتلأ خشبة المسرح بخوذ الجيش يحملها ممثلون بأفواههم مثل كلاب الصيد، وبدلات عسكرية وحركات استعراض عسكري معاصر ومفردات بصرية مختلفة شكلت حقلاً دلالياً يوصل الواقعة التاريخية بمأساة العراق وفواجعه التي قاربت بقسوتها قسوة مأساة الحسين. فجرار الماء لا قعر لها مثل عطش دائم، والاطارات الفارغة التي شكلت بأعدادها وأشكالها المختلفة رموزا وأسئلة محيرة، والعصي التي تعددت أستخداماتها والكفوف المعلقة على الرماح ومن ثم المشهد الأكثر وضوحاً مشهد سحل الجثث والدوران فيها في منصة المسرح في استذكار واضح لمشاهد سحل جثث شهداء الأنتفاضة الشعبية".
 
وبيّن: "كل ذلك أجج الجمهور فصار يصفق تارة ويتأوه تارة أخرى ويطلق حسرات عاليه يتعمد أن تُسمع بوضوح وكأنه يرسلها لآذان رجال الرقابة الذين كانوا يتربصون بنا، بل صار الجمهور يردد كلمة (الله) ويردد أحيانا مع الممثلين بعض المقاطع المعروفة سلفاً مثل قول الشمر بن ذي الجوشن :(إملأ ركابي فضة أو ذهباً، إني قتلت السيد المحجبا، وخيرهم من يذكرون النسبا، قتلت خير الناس أماً وأباً) ."
 
وأشار الى أن "الجمهور كان بطلاً للعرض أما البطل الآخر فهو الممثلون وبالذات المجاميع الذين أدهشوا الجمهور بأدائهم الحركي الذي أعتمد على التعبير الجسدي، فبدا العرض وكأنه أستعادة لطقوس عاشوراء بلغة فن الرقص والتعبير الحركي الحديث".
 
وكان الناقد حسب الله يحيى قد كتب عن المسرحية: "أحد أهم وأبرز الأعمال التي تعيد للمسرح العراقي هويته الوطنية ورفعته الأنسانية بعد أن حولها جمع من المتهافتين على بريق ذهب سبقهم أليه شمر فدمر نفسه. مسرح نطيف حد القدسية. عرض أراد أن يبوح بالقليل فأذا بالكثير يحتشد وأذا الصغائر تكبر والأجزاء تجتمع. في معالجة فنية حية نبيلة فيها بسالة في الطرح وسمو في الهدف أخلصت في قوة التعبير وشجاعة الموقف".
 
وكتب الفنان المسرحي عزيز عبد الصاحب عن عرض المسرحية: "وأخيراً ها هو الحر الرياحي متجسداً على المسرح، فمالذي حدث؟ هل أنقلبت الدنيا وعم الزلزال؟ لقد تشظى الحر الرياحي عند عبد الرزاق الى الحر وهاجسه أما عند المخرج المبدع كريم رشيد فقد تشظى الى ثلاثة، فقد أضاف المخرج صوت المرأة كهاجس جديد. حشد خمسين ممثلة وممثل وملأ بهم فضاء المسرح وحافظ على جلالة وروعة المشهد المسرحي وأمتلائه وتوازنه ."
 
كاظم حيدر وملحمة الشهيد تشكيلياً
 
كان التشكيل العراقي قد تناول واقعة الطف بمشهدية واسعة كون التشكيل فن فردي وواضح للعيان ويعكس وجدان الرسام، حيث تحولت الخيمة والفرس الابيض والرايات والرماح والسيوف الى دلالات رمزية في غالبية اعمال التشكيليين العراقيين.
 
وكان جيل الستينيات من القرن الماضي هو الاكثر تعبيراً وانتاجاً عن واقعة الطف التي صارت موضوعاً للكثير من الفنانين العراقيين من جيل الرواد والمحدثين ومنهم: كاظم حيدر - شاكر حسن ال سعيد -  فيصل لعيبي - صالح الجميعي - رافع الناصري - ضياء العزاوي - مكي عمران والفنان احمد عباس سعيد.
 
ويتفرد الفنان كاظم حيدر في تجسيد هذا المشهد خاصة في معرضه المهم "ملحمة الشهيد" وقد "تضمنت اللوحات بعض الأبيات الشعرية المستمدة من موضوعة عاشوراء. وقد أستلهم الفنان اشكال تلك اللوحات ورموزها من المرويات والمصورات الشعبية الخاصة بطفوف كربلاء واخرجها بشكل تعبيري فسجلت تأريخاً مصوراً عن الواقعة، كما نقل الراحل شاكر حسن آل سعيد صورة المعركة عبر تصويره لفرس الحسين مطعوناً بعدد كبير من السهام المغروزة في جسده، في اشارة الى وحشية القتلة الذين شمل فعلهم كل شيء".
 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب
 

آخر الأخبار

مراسم افتتاح مركز الأناضول الثقافي في أنقرة

افتتاح مركز الأناضول الثقافي الكوردي في أنقرة

شهدت أنقرة تجمعاً للكورد، للمشاركة في مراسم افتتاح مركز ثقافي وفني كوردي، حيث افتُتِح مركز الأناضول الثقافي، بوصفه مركزاً تابع لمركز ميزوبوتاميا الثقافي في أنقرة. وقد شارك الرئيسان المشتركان لحزب المساواة وديمقراطية الشعوب (دام) وأطفال كورد في قص شريط الافتتاح.